كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والغذاء يجيء من الطين! والمشرف أولا وأخرا على هذه الأطوار هو الله {الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون}. والمدهش أن الإنسان يتخلق من حيوان منوي واحد فقط، والبقية الأخرى من المائتي مليون تذهب إلى دورات المياه! كأن الله يقول للإنسان المتكبر إن إيجادك، وإيجاد مليارات مثلك لا يكلف شيئا. قلت لامرئ أحمق يزعم أنه يشتغل بالفلسفة: من صنع الحيوان المنوي الذي اخترقها واستقر فيها؟ إن كلا من أبويك لا يدرى شيئا وتجيء أنت تصنع الإلحاد {ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون}. الدليل الثالث: إن الأرض التي تحيا فوقها حافلة بالروائع، فأنت واجد بها جنات معروشات وغير معروشات وحقولا وغابات وأنواعا من الثمار لا حصر لها بين حبوب وفواكه وموالح وزيوت وأنسجه وألوانا من الأزهار المختلفة الريح والصبغة.. إلخ. من منشئ ذلك كله؟ إن الفلاح يشق الأرض ويلقى البذر ولا يدرى شيئا بعد. إنه يشهد ما تصنع القدرة العليا، ويستقبل هدايا الله وهو مستسلم! أما يدفع شيء من هذا إلى معرفة المنشئ المبدع؟ أما يبعث ذلك إلى إدراك قصة الحياة والموت؟! في سورة الواقعة إشارات إلى ما في الزرع والحصاد من دلائل على البعث الأخير. {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون}. إن إحياء الموات قصة تتكرر في أرجاء الدنيا. {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها}. وإخراج البشر من الأجداث لا يزيد عن إخراج النبات من ظلمات التراب حاملا صنوف المعادن والمواد المذهلة {والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا}. وفى سور أخرى بيان أكثر {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} إن التوبة هنا يقظة عقل: كان غافيا فصحا، وكان ذاهلا فأنتبه... نعم الخروج للقاء الله، ومواجهة الحساب مثل هذه الزروع التي خرجت من التربة العفنة السبخة تحمل السكر والدهن والنشا وتتورع عليها ألوان الطيف.. ثم يدعو إلى إنكار البعث وفى كل حين بعث..
وقد يتصور الفلاح أن له عملا فيما يتم، فبين الله أنه لو أراد دمر ما أنشأ وأسلمه إلى أسراب الجراد {لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون}. إن بعث الأجساد كاستنبات الأرض، عمل تبرز فيه قدرة بديع السماوات والأرض، ويجب أن يكون مثار إيمان بالبعث والجزاء. لنتدبر قصة الجزاء الأخروي والزعم بأنه روحاني! من المعلوم أن الإنسان جسم وروح، فهل صحيح أن التسامي المنشود للإنسان لا يتم إلا بتدمير الجسد، وتجاهل مطالبه؟ إنني لم أر في الكتاب والسنة أي إشارة إلى تعذيب الجسد وإشقائه! نعم هناك صيام مشروع، وتعرض للعطش والجوع!! وهناك صلاة قد يطول فيها السجود والقيام، وقد تتورم فيها الأقدام! وربما اكتسب الإنسان رزقه من حرفة ينصب فيها ويتصبب عرقه! وربما انتهت حياته بالقتل في سبيل الله فتزهق روحه، ويراق دمه، ويتحقق فيه قول ابن الرومي: فحب جسما على الأرض إذ هوى وحب بها روحا إلى الله تعرج! لكن ذلك كله فحوى الامتحان الإلهي للإنسان روحا وجسدا، وحظ الروح من هذا الامتحان قسيم لحظ البدن، بل دور البدن هنا الوسيط، فهو ينقل ما يصيبه إلى الوعي ومع الوعي يكون التحمل واتجاه الإرادة إلى مرضاة الله. ولو وقف الألم مكانه بالبنج مثلا ولم يشعر المرء بشيء حتى الموت، ما كان له من فضل! إن الإنسان جنس يتميز بخصائصه، وقد خلقه الله بيديه، ولم يخلقه في أحسن تقويم، ليجيء رجل أو امرأة فيقول: إن الجسم حقير وينبغي أن يهان ويعذب! وعندما خلق الله آدم قال له: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما} فأين تعذيب الجسد في هذه الإباحة؟! وخلق الله الرسل، وجعلهم صفوة خلقه، وقال لهم {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا}. فأين آثار الحرمان في هذا التكليف..؟ ويسر الله الأرزاق الطيبة للمؤمنين به، ولم يطلب إلا الشكر على ما أنعم {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون}. فهل في هذا حرب على الجسد وتخطيط لإهانته؟
وبين-جل شأنه- أن أبناء آدم بعد رحلتهم الطويلة في أرجاء الدنيا وتوارثهم عمرانها حينا بعد حين سوف يعودون إلى الله كرة أخرى {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} فهل تتحقق هذه العودة بقيام الناس صورا لا أرواح فيها أو بقيامهم أرواحا لا أجساد لها؟ هذا تصور أخرق. الناس هم الناس، وسوف يحيون بجوارحهم ومشاعرهم التي باشروا بها المعاصي أو الطاعات! وعندما يحاول الذين مردوا على الجدل والمكابرة أن ينكروا ما فعلوا، نطقت أركانهم بتكذيبهم {حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون}. إن الإنسان الذي أحس المعاناة والتضحية في دنياه يكافأ بنعيم مقيم في الآخرة. وروى ابن كثير عن الطبراني أن النساء المؤمنات أفضل في الجنان من الحور العين! قالت أم سلمة: فبم ذاك؟ قال بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن لله!! ثم جاء في هذا الحديث أن النساء المؤمنات يقلن: «نحن الخالدات فلا نموت أبدا، ونحن الناعمات فلا نيأس أبدا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا، طوبى لمن كنا له وكان لنا..». إن الذين جاهدوا في الدنيا هم المستريحون في الأخرى. والقول بأن الأجسام تفنى فلا تعود، وأن الآخرة مسرح الأرواح وحدها، وأن ثوابها وعقابها معنوي يشبه تأنيب الضمير أو راحة الضمير، قول باطل لا أساس له.. ويبدو أنه انتقل إلى النصرانية من بعض الديانات الأرضية المخرفة. وكم سطت الوثنيات على الأديان فقوضت أركانها ومحت معالمها! والغريب أن الذين يحملون فلسفة الرهبانية وقهر الأبدان هم عنصر الهزيمة والاستسلام في الحضارة المعاصرة، وهى حضارة أسفت على نفسها في إرواء الغرائز ويسرت للرعاع من فنون الملذات ما لم تشهده مقاصير الملوك الأقدمين، وهكذا تقود الأخطاء إلى الخطيئات!! وفى دنيانا ننظر إلى جائزة (نوبل) مثلا التي يصبو إليها العلماء الراسخون! إن في منحها تقديرا أدبيا تهش له النفس! لكن التقدير الأدبي وحده لا يطعم من جوع ولا يؤمن من خوف، ومن هنا كانت الجائزة المرصدة ثمينة وسخية.
ونمضى في شرح قصة الجزاء الهادي لنقول: إن مطالب الجسد محدودة وإجابتها قليلة الكلفة عندما تختفي رذائل الترف والسرف! فهل هي فوق الجزاء المعنوي؟ نقول لا... وتفاوت المواهب والهمم والجهود يلقى أجزية شتى بعضها أعلى من بعض..! قد يكون لك خادم مخلص تعطيه طبق الطعام فينظر إليه قبل أن ينظر إليك! وهو يشكرك بقوة لكن عينيه لا تعدوان الطبق وما فيه كما وكيفا.. وهناك آخر يعرفك ويقدرك ويعرف الناس بك وبقدرك. فإذا قدمت إليه الطبق كانت نظرته إليك أسبق وأعمق، وعندما يتناول الطبق منك يتمنى لو منحته كتابا من تأليفك يزيده بك علما ولك تقديرا! هل يستويان؟ إن من أهل الإيمان من تشغله أمجاد الألوهية، فهو معها في فرح دائم! أو حضور غالب، وهو في سرائه وضرائه ناظر إلى ربه... وحسب. لكن اللذة والألم قوانين نفسية لا ينفك عنها بشر، وعندما يعبر أهل الإيمان عن أحوالهم، فلن يخترقوا أبدا آداب الشرع ويعتدوا حدود الله. إذا قال الله: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}، فلا يجوز لأحد أن يقول: ما الجنة وما نعيمها؟ إننا نريد وجه الله! هذا كلام سقيم! هل يريد أن يرى وجه الله وهو في ظل شجرة الزقوم؟ إن كان لها ظل!! إن الله يتجلى برضوانه على عباده المؤمنين وهم يرفلون في حلل الجنة ويمشون في ظلها الدائم. وفيما ذكرنا شرح لقوله تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم}. إن الرضوان الإلهي أعلى من كل نعيم وأقر للعين من كل لذة، ولكننا نرفض سوء الأدب مع عبارات الشارع الحكيم. وعلماؤنا مجمعون على أن ثواب الآخرة وعقابها ماديان وروحيان، وهناك حشود من الآيات والأحاديث تؤكد ذلك. قد يخطئ بعض الرجال الطيبين فينظر إلى نفسه وأحواله ثم يصدر حكما عاما غامضا في شئون الناس. وذاك لا ينبغي! نحن نعلم أن عيسى ويحيى لم يتزوجا، لكن كلا الرسولين لم يشن حربا على الزواج، ولم يسن مسالك الرهبانية المستوحشة، لأنهما لم يبعثا لدمار الحياة! وعدم زواجهما هو لظروف تخصهما وحدهما..
وقد عاش ابن تيمية عزبا، وكذلك عاش جمال الدين الأفغاني، ولم يؤثر على أحدهما أنه دعا إلى عزوبة! هناك نباتيون يكتفون في غذائهم بما يخرج من الأرض. أعرف منهم العلامة محمد فريد وجدي، لتكن هذه طبيعته! فليس أكل اللحم فريضة دينية.. بيد أننا نعترض على هذه الطبيعة إذا حاول صاحبها جعلها دينا. وقد ارتكب أبو العلاء المعرى هذه السخافة عندما قال: غدوت مريض الدين والعقل فالقني لتعرف أنباء الأمور الصحائح! ومضى في قصيدته يحرم لحوم الأنعام والطير، بل لقد حرم عسل النحل، فما جمعته كي يكون لغيرها!! إلخ. ومن هذا القبيل ما يجرى على ألسنة بعض الأدباء اليوم من أن الجنة ليست (سوق خضار) يرمى بذلك إلى إنكار الجزاء المادي وتهوين شأنه!! وقد تأثر به ناس في تاريخنا القريب والبعيد، وعدوه تساميا، وهو جهل كبير! إن أنس بن النضر كان يرى ربه، ويرى جزاءه الموعود، عندما استنكر موقف المنهزمين في أحد، وأقبل وحده يقاتل المشركين، ويتحمل بجلد عض السيوف في جلده، وهو يصيح: إني أشم ريح الجنة من وراء أحد! هل هذا المؤمن العظيم رجل واهم؟ وهو الذي قال فيه رب العالمين: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر}. وجعفر الطيار، الذي احتضن علم الإسلام بيديه، فما سقط إلا بعد أن انقطعت ذراعاه، فسارع بطل آخر لحمل العلم الغالي. لقد كان يتشوف إلى الشهادة وهو يقول:
يا حبذا الجنة أو اقترابها ** طيبة وباردا شرابها

فهل تطلع الرجل المعنى إلى الراحة في ظلال الجنة وهم، أو ضعف فكر؟ كما يزعم أصحاب الخلل في فطرتهم ونظرتهم!! إن أنصاف المتعلمين والمتدينين الذين يتكلمون في الإسلام وهم بمعزل عن كتاب الله وسنة رسوله، خير لهم أن يصمتوا وأن يستحوا! وقد قرأت لبعض القساوسة المبشرين بالنصرانية تهكما بالجنة الذهبية وجهنم النارية! وتنديدا بالأجزية المادية التي شرحها الإسلام! إن هؤلاء الناس متأثرون بأفكار أرضية وفلسفات مقطوعة الصلة بالوحي. ولننظر: ماذا أسدوا للإنسانية من خير بهذا الكلام؟ هل ارتقوا بالحضارة المعاصرة وخففوا من كثافتها؟ هل حولوا العوام والخواص إلى روحانيين يكبتون الشهوات ويحلقون في السموات؟ إنهم أخطئوا في علاج النفس البشرية، ولم يعرفوا المفتاح الذي يدور في أقفالها فتنفتح! إن مقادير ضخمة من الترهات، تسكن في عقول القوم وأفئدتهم، صرفت أولى الألباب عن الدخول في الدين، واحترام مواريثه.. إن الإنسان الذي هو مادة وروح لا يصلح إلا بتعالي م تعترف بمادته وروحه معا. وهذه التعالي م حمل رايتها الأنبياء كلهم ومن بينهم موسى الذي قال معتذرا عن قومه {أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك}. وقبله إبراهيم الذي دعا ربه قائلا {رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين}. ينقسم أهل النعيم في هذه السورة قسمين. الأول: السابقون بالخيرات. والثاني: الفائزون بقدر راجح من الحسنات! أما من بقى فهم أصحاب الشمال!.. وأخطأ بعض المفسرين فحسب أن هذه الأصناف الثلاثة هي المذكورة في قوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله}. إن سورة الواقعة تحدثت عن الناس كلهم، مؤمنهم وكافرهم، أما الآية الموهمة، فهي تتحدث عن المسلمين خاصة! وصدر الآية يدل على ذلك {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات}. ووصفت سورة الواقعة أهل السبق بأنهم {ثلة من الأولين وقليل من الآخرين}. ويرى البعض أن الثلة من الأولين تعنى أصحاب الأنبياء الذين سبقوا محمدا برسالاتهم وأن القلة من الآخرين تعنى المسلمين! ويظنون أن هذا طبيعي لكثرة من سبق من أنبياء وأمم! والذي نراه أن الوصف هنا لأمة محمد وحدها، وأن الثلة من الأولين هم سلفنا الصالح،